ج ٣، ص : ٧٧٩
مثل ذلك يضل اللّه من يشاء ويهدى من يشاء، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين.
وما يعلم جنود ربك إلا هو، نعم لا يعلم خلقه إلا هو، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط.
وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا اللّه.
يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم.
ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام، فقال قائل : نقول : إنه شاعر، وقال آخر : لا، إنه كاهن، وقال ثالث : لا، إنه مجنون، وقال رابع : لا، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له : ما لك لا تتكلم ؟ ؟ فقال : لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين، وقالوا : لقد صبأ الوليد - أى : ترك دين آبائه وأجداده - ولتصبأن معه قريش، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف.
ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية، والنخوة الكاذبة فقال له : لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله، فقال الوليد : لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم ؟ قم بنا إلى دار الندوة، ولأقول كلاما أصحح به وضعي.
اجتمع الناس فقال الوليد : إن محمدا ليس بشاعر، ولا كاهن، ولا كاذب - لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا - فقال :