ج ٣، ص : ٨٢٤
عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى، وهو ابن أم مكتوم، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك، فعاتبه اللّه على ذلك قائلا : وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك ؟
التفت اللّه إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه : إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل : فالذي استغنى عن الإيمان باللّه وعن طاعته وطاعة رسوله، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له، وتشغل نفسك بوعظه، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من اللّه، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ، فمن ركب رأسه، واغتر بدنياه، وأغفل آخرته، وظن أنه غنى عن هداية اللّه فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته.
ثم لما ذكر اللّه هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا.
كلا.. إنها - آيات القرآن - تذكير ووعظ، لمن غفل عن اللّه فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه.
ثم إن اللّه تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها، فقال : إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين اللّه وبين الخلق، وهم كرام على اللّه بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء ٢٦] وأبرار وأطهار، لا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل ؟ ! قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق ؟
إنه خلق من نطفة قذرة، ثم كان خلقا سويا قد قدره اللّه وهيأه ليقوم بما يكلف به،


الصفحة التالية
Icon