وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر.. ١".
ونستطيع أن نرى صورة الرماني من خلال آرائه البلاغية٢، ونستطيع أن نسمع صوت الخطّابي وهو يتحدث بعمق عن الوجه النفسي للإعجاز القرآني٣، كما نستطيع أن نقرأ ما كتبه الجرجاني والباقلاني عن نظم القرآن.. وهكذا.
فالقاضي عياض وإن كان لم يُشِر إلى مصادره إلا أننا استطعنا بما لنا من خبرة في هذا الموضوع أن نُحدّد مصادره بدقّة، أضف إلى ذلك أن القاضي عياض قد كشف عن حقيقة نقله حين وجد أن هناك كثيرا من الآراء لم يسلكها بين أوجه الإعجاز التي حددها، وخشي أن يفوته ذكرها.. ؛ لذلك سمعناه يقول بعد الفصول التي اعتمدها للإعجاز: "ومن الوجوه البيّنة في إعجازه من غير هذه الوجوه آيٌ وردت بتعجيز قوم في قضايا إعلامهم أنّهم لا يفعلونها؛ فما فعلوا ولا قدروا على ذلك.. كقوله لليهود: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً..﴾، وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى، حيث وفد عليه أساقفة نجران، وأبوا الإسلام؛ فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾.
ومنها: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه.
ثم وجد القاضي عياض أنه رغم ذلك لم يستوف كل وجوه الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون؛ فعقد فصلاً جديدا بدأه بقوله: "ومن وجوه إعجازه المعدودة.. كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفّل الله تعالى بحفظه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
كذلك وجد القاضي عياض نفسه لم يستكمل كل جوانب موضوعه، وأن هناك آراء أخرى كثيرة ذكرها العلماء ولم يسجّلها؛ فلم يجد من ذلك بدّا من أن يجمعها معا ويفرد لها فصلاً

١ انظر حجج النبوة للجاحظ ص ١٤٤ وما بعدها.
٢ انظر رسالة الرماني (النكت في إعجاز القرآن) وقارن ما كتبه القاضي عياض في الوجهين الأول والثاني.
٣ انظر رسالة الخطابي (بيان إعجاز القرآن) ص ٦٤ وما بعدها، وقارن ما كتبه القاضي في ج ١ ص ٢٧٣.


الصفحة التالية
Icon