لطائف الإشارات، ج ١، ص : ١٦
من خلال هذه السيرة التي حاولنا إيجازها نستطيع أن ندرك أهمية الكتاب الذي نقدم له.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم - كما يدعى ابن الجوزي غفر اللّه له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ - وهو يستخرج إشارة من العبارة - إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني