لطائف الإشارات، ج ١، ص : ٢٣٩
تكون عليه مشقة لأجل الأولياء. وفى هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه فى رفق الفقراء.
ثم كان زكريا عليه السّلام يقول : أنّى لك هذا؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شغلها، فكان يسأل ويقول : أنّى لك هذا؟ ومن أتاك به؟
و كانت مريم تقول : هو من عند اللّه لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان :
إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند اللّه تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به. قوله «كلما دخل عليها زكريا المحراب» فلفظة كلّما للتكرار «١» وفى هذا إشارة : وهو أن زكريا عليه السّلام لم يذر تعهّدها - وإن وجد عندها رزقا - بل كل يوم وكل وقت كان يتفقد حالها لأن كرامات الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعا فيجوز أن يظهر اللّه ذلك عليهم دائما، ويجوز ألا يظهر، فما كان زكريا عليه السّلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدّد السؤال عنها بقوله :«يا مريم أنّى لك هذا؟» لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على اللّه سبحانه «٢» وقوله :«إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» إيضاح عن عين التوحيد، وأن رزقه للعباد، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته، دون أن يكون معلّلا بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم.
قوله جل ذكره :
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
أي لما رأى كرامة اللّه سبحانه معها ازداد يقينا على يقين، ورجاء على رجاء فسأل الولد على كبر سنّه، وإجابته إلى ذلك كانت نقضا للعادة.
(١) أي لتكرار زيارة زكريا لها مرة بعد مرة.
٢) هنا إشارة دقيقة تتصل بمذهب القشيري - الذي يخالف المعتزلة - أنه لا وجوب على اللّه فى إثابة المطيع، لأن طاعة المطيع ليست زيّنا للّه، ومعصيته ليست شيئا للّه، وإنما المعول عليه فضل اللّه وهذا لا علة له، ولا وجوب على اللّه فيه.