لطائف الإشارات، ج ١، ص : ٢٨
العليا، فسجد الملائكة كلهم أجمعون (بعد ما لاحت لهم المعرفة) وبقي هو على عناده متأبيا أن يسجد لبشر مخلوق من صلصال من حمأ مسنون (لأنه لا يعرف أن مشيئة اللّه تجرى على غير علة).
وفى سورة براءة - التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة، استمع إليه يقول :«الحقّ - سبحانه - جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو - وإن كان وجها فى الإشارة - إلا أنه ضعيف، وفى التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله :«الَّذِينَ كَفَرُوا...» ومثل قوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله :«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ» وقوله :«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ...» فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة فى أوائلها، وهى متضمنة ذكر الكفار.
و قد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق».
...... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته.
ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات». وربما كان أفضل