لطائف الإشارات، ج ١، ص : ٣٥
بقيت مسألة هامة لا أحب أن أنهى هذا التقديم دون أن أوضحها، وهى قيمة هذا الكتاب من الناحية الأدبية.
و الواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة.
وإنى لأتساءل : إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف، لأن الإنتاج الصوفي - فى كثير من الأحوال - درر من المنظوم والمنثور، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا.
وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة، فهذا له مكان آخر، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء.
و فى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة - مفردة ومركبة - تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا، حيث استكمل ناحيتين : أدب المفسّر وأدب المفسّر.


الصفحة التالية
Icon