لطائف الإشارات، ج ١، ص : ٥٦٧
و لوجهها من وجهها قمر ولعينها من عينها كحل
و يقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله :«فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» أتمّ وأعظم منه قوله :«لَنْ تَرانِي» لأن ذلك صريح فى الرد، وفى اليأس راحة. لكنّه لما قال فسوف أطمعه فيما منعه فلما اشتد موقفه جعل الجبل دكا، وكان قادرا على إمساك الجبل، لكنه قهر الأحباب الذي به جرت سنّتهم.
ويقال فى قوله :«انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له :«لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ».
ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا - واللّه - لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال : لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا :
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
و يقال بل الحق سبحانه أراد بقوله :«وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» تداركه قلب موسى - عليه السّلام - حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل :
فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال :«تُبْتُ إِلَيْكَ».
يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله - تعالى - لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جل ذكره : تُبْتُ إِلَيْكَ.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك.


الصفحة التالية
Icon