لطائف الإشارات، ج ٢، ص : ٢٠٠
يوسف أن يحفظ بصره من البكاء لأجله، وأمّا داود فقد كان يبكى للّه، وفى قدرة اللّه - سبحانه - ما يحفظ بصر الباكي لأجله.
سمعت الأستاذ أبا على الدقاق - رحمه اللّه - يقول ذلك، وقال رحمه اللّه : إن يعقوب بكى لأجل مخلوق فذهب بصره، وداود بكى لأجل اللّه فبقى بصره.
وسمعته - رحمه اللّه - يقول : لم يقل اللّه :«عمى يعقوب» ولكن قال :«وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ»، لأنه لم يكن فى الحقيقة عمى، وإنما كان حجابا عن رؤية غير يوسف «١».
ويقال كان ذهاب بصر يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شىء أشدّ على الأحباب من رؤية غير المحبوب فى حال فراقه، وفى معناه أنشدوا :
لما تيقّنت أنى لست أبصركم أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد
و سمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه اللّه يقول : كان يعقوب عليه السلام يتسلّى برؤية بنيامين فى حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال :«يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» أي أنه لما منع من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمّا بقي عن النظر قال : يا أسفا على يوسف.
قوله جل ذكره :
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٥]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥)
هددوه بأن يصير حرضا - أي مريضا مشرفا على الهلاك - وقد كان، وخوفّوه مما لم يبال أن يصيبه حيث قالوا «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ».
ويقال أطيب الأشياء فى الهلاك ما كان فى حكم الهوى - فكيف يخوّف بالهلاك من كان أحبّ الأشياء إليه الهلاك؟
قوله جل ذكره :
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٦]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
شكا إلى اللّه ولم يشك من اللّه، ومن شكا إلى اللّه وصل، ومن شكا من اللّه انفصل.
(١) هذا نموذج من التذوق للنص القرآنى لا يفطن إليه إلا أرباب الذوق الصوفي.