لطائف الإشارات، ج ٣، ص : ٢٥٢
يشرب في تلك المدة، حتى أوحى اللّه إليه بالمغفرة، فقال : يا رب، فكيف بحديث الخصم؟
فقال : إنى استوهبتك «١» منه، وقال تعالى :
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٥]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
إن له عندنا لقربة وحسن رجوع، وقيل : كان لا يشرب الماء إلا ممزوجا بدموعه.
ويقال لمّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وجد المغفرة والتجاوز.. وهكذا من رجع في أوائل الشدائد إلى اللّه فاللّه يكفيه مما ينوبه، وكذلك من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربّك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربّك «٢».
قوله جل ذكره :
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٦]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
«جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» أي بعد من تقدّمك من الأنبياء عليهم السلام. وقيل حاكما من قبلى لتحكم بين عبادى بالحقّ، وأوصاه بألا يتبع في الحكم هواه تنبيها على أنّ أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى.
ولما ذكر اللّه هذه القصة أعقبها بقوله :
[سورة ص (٣٨) : آية ٢٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
- ضرورية لنوضح كيف أن التعبد الفائق الذي يمارسه الخاصة لا يمنع من رجوعهم في حال الفرق الثاني إلى أن يقوموا بالتعبد الذي تفرضه الشريعة. وربما كان ذلك مقصد القشيري من اختيار هذه الرواية... والواقع أن القشيري يجيد اختيار الشواهد من القصص والأخبار، واضعا في الاعتبار خدمة التصوف وأهله.
١) أي استوهبتك منه بثواب الجنة (القرطبي ج ١٥ ص ١٨٥).
(٢) هكذا يفتح القشيري أبواب الأمل أمام العصاة، ويدفع عنهم القنوط من رحمة اللّه.