لطائف الإشارات، ج ٣، ص : ٦٢
لم يرد مكافأة منهم «فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» : لم يقل : فلما جاءه قدّم السّفرة «١» بل قال : وقصّ عليه القصص.. وهذا طرف من قصته.
ويقال : ورد بظاهره ماء مدين، وورد بقلبه موارد الأنس والرّوح. والموارد مختلفة فموارد القلب رياض البسط بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطفة، وموارد الأرواح مشاهد الأرواح فيكاشفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساس بالنّفس، وموارد الأسرار ساحات التوحيد.. وعند ذلك الولاية للّه فلا نفس ولا حسّ، ولا قلب ولا أنس..
استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية!.
ويقال كانت الأجنبية والبعد عن المحرميّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراض والسكون عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسّرّ استنطقه حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل :
أ جارتنا إنّا غريبان هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيب
و يقال : لمّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيام بأمرهما ليعلم أنّ من تفقّد أمر الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤهم.
ويقال من كمال البلاء على موسى أنّه وافى الناس وكان جائعا، وكان مقتضى الرّفق أن يطعموه، ولكنه قبض القلوب عنه، واستقبله من موجبات حكم الوقت أن يعمل عمل أربعين رجلا لأن الصخرة التي نحّاها عن رأس البئر - وحده - كان ينقلها أربعون رجلا، فلمّا عمل عمل أربعين رجلا، تولّى إلى الظّلّ، وقال : إن رأيت أن تطعمنى بعد مقاساة اللتيا والتي.. فذلك فضلك!.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسان أحلى من ذلك. وسنّة الشكوى أن تكون إليه لا منك.. بل منه إليه «٢».
(١) السفرة طعام يصنع للمسافر، أو مائدة وما عليها من طعام.
(٢) لأنك بلا أنت، فبالضرورة ليس منك شكوى، فعل الحقيقة لا وجود إلا له، فاتركه ممسكا بعنانك، واستسلم لما يختار، ولن يكون إلا الخير.