أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم والكفرة من أهل الكتاب، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر، فقال :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ وقال أبو طلحة : كهولاً وشباناً ما سمع الله عذر أحد، ثم خرج إلى الشام، فقاتل حتى قتل. وفي رواية : قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بنيَّ، فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله ﷺ حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها. وقال مجاهد : شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين، وقال الحكم : مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس ﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ يقول : انفروا نشاطاً وغير نشاط؛ وقال الحسن البصري : في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا اختيار ابن جرير. وقال الإمام الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافاً وركباناً، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافاً وثقالاً وركباناً ومشاة؛ وهذا تفصيل في المسألة؛ وقال السدي قوله ﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ يقول : غنياً وفقيراً وقوياً وضعيفاً فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه، وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت يومئذ :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس، فنسخها الله فقال :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [ التوبة : ٩١ ].
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قال : وافيت ( المقداد بن الأسود ) فارس رسول الله ﷺ جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو، فقلت له : قد أعذر الله إليك، فقال : أتت علينا سورة البعوث :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾، وقال ابن جرير عن حبان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع ( صفوان بن عمرو ) وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك، قال : فرفع حاجبيه، فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ، ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال :﴿ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً، فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي ﷺ :


الصفحة التالية
Icon