يبيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق، كما ورد عن رسول الله ﷺ قال :« إن الله عزّ وجلّ يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول :﴿ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ » الآية. وقوله :﴿ الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي يردون الناس عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى والموصلة إلى الله عزّ وجلّ، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي ويريدون أن يكون طريقهم ﴿ عِوَجاً ﴾ غير معتدلة، ﴿ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها، ﴿ أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي بل كانوا تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم، ولكن ﴿ يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، وفي « الصحيحين » :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، »، ولهذا قال تعالى :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾، الآية أي يضاعف عليهم العذاب وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، بل كانوا صماً عن سماع الحق، عمياً عن ابتاعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار ﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ].
وقوله تعالى :﴿ أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نار حامية، فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها، كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي ذهب عنهم، ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] وقال الخليل لقومه :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم، ولهذا قال :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون ﴾، يخبر تعالى عن مآلهم بأنهم خسر الناس في الآخرة، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.


الصفحة التالية
Icon