لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي، فقال :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم ﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ اي من كل شكل صنفان ﴿ يُغْشِي اليل النهار ﴾ أي جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي في آلاء الله وحكمه ودلائله، قوله :﴿ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ أي أراض يجاور بعضها بعضاً، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سميكة وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو، وقوله :﴿ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ يحتمل أن تكون عاطفة على جنات، فيكون ﴿ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ مرفوعين، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب فيكون مجروراً، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة، وقوله :﴿ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ الصنوان هو الأصول في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار، وفي « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال لعمر :« أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه »، وقال شعبان الثوري عن البراء رضي الله عنه : الصنوان هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان المتفرقات، وقوله :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ قال الأعمش، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ :﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ قال :« الدقل والفارسي والحلو والحامض »، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كانت تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما تريد، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon