فصل


وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله ﷺ من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، قال الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة والحق أنه عليه السلام أسري به ( يقظة ) لا ( مناماً ) من مكة إلى بيت المقدس راكباً على البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما ﷺ وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام. أي أقلام القدر، بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة. وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق. ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح يومئذٍ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم. وهذا هو اللائق، لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم اختلف الناس هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظه لا مناماً. ولا ينكرون أن رسول الله ﷺ رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾.


الصفحة التالية
Icon