﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ]، وهذا كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩-٧٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها ﴿ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير ﴾ ومعناه أن الله تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾ [ الحج : ٤٨ ] وفي الصحيح :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »، ثم قرأ تعالى :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ].
وأما قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين : الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم، قالت : إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال :﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] حتى بلغ ﴿ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنُّها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس : قال النبي ﷺ :