يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي « العصا »، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم « آيات مفصلات قاله ابن عباس، وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا والخمس في الأعراف والطمس والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد :( هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم )، وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي، وجعل الحسن البصري : السنين ونقص الثمرات واحدة؛ وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون، ﴿ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ] أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها كفروا بها وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً وما نعجعت فيهم؛ فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلاّ أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى - وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات - ﴿ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً ﴾ قيل : بمعنى ساحر، والله تعالى أعلم. فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعنية في قوله تعالى :﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ ﴾ [ النمل : ١٠ ] إلى قوله ﴿ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ [ النمل : ١٢ ]، فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبيَّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصّلها، وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة : منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
ولهذا قال موسى لفرعون :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به، ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً ﴾ أي هالكاً، قاله مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس : ملعوناً، وقال الضحّاك ﴿ مَثْبُوراً ﴾ : أي مغلوباً، والهالك كما قال مجاهد، شمل هذا كله. ويدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله، وقوله :﴿ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض ﴾ أي يخليهم منها ويزيلهم عنها ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض ﴾، وفي هذا بشارة لمحمد ﷺ بفتح مكة مع أن السورة مكية، نزلت قبل الهجرة وكذلك وقع فإن أهل مكة همّوا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] الآيتين، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل، وقال هاهنا ﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾ أي جميعكم أنتم وعدوكم، قال ابن عباس ﴿ لَفِيفاً ﴾ أي جميعاً.


الصفحة التالية
Icon