يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله. فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً، وقالوا ﴿ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ﴾ أي أمراً عظيماً، ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ أي يا شبيهة هارون في العبادة، ﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾ أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي : قيل لها ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ أي أخي موسى وكانت من نسله، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم، وللمضري : يا أخا مضر، وقيل : نسيت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم. كما قال الإمام أحمد، عن المغيرة بن شعبة قال :« بعثني رسول الله ﷺ إلى نجران، فقالوا : أرأيت ما تقرأون ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال :» ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم « ».
وقال ابن جرير، عن قتادة قوله ﴿ ياأخت هَارُونَ ﴾ الآية قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر، قال وذكر لنا أنه شيع جنازه يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل. وقوله :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها ظانين أنه تزدري بهم وتعلب بهم ﴿ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ ؟ قال السدي : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها ﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله ﴾ أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه، وقوله :﴿ آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾ تبرئة لأمّه مما نسبت إليه من الفاحشة، قال نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من ثمه، واتكأ على جنبه الأيسر وقال :﴿ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً... ﴾ إلى قوله ﴿ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾.


الصفحة التالية
Icon