يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه إنه قال :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم ﴾ ؟ يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك، وهو قوله :﴿ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾، قاله ابن عباس، وقوله :﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال مجاهد : يعني دهراً، وقال الحسن البصري : زماناً طويلاً، وقال السدي ﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال : أبداً. وقال ابن عباس ﴿ واهجرني مَلِيّاً ﴾ قال : سوياً سالماً، قبل أن تصيبك مني عقوبة، فعندها قال إبراهيم لأبيه ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾، كما قال تعالى في صفة المؤمنين :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، ومعنى قول إبراهيم لأبيه ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ ﴾ يعني : أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾، ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ قال ابن عباس وغيره : لطيفاً، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ قالا : عودة الإجابة، وقال السدي : الحفي الذي يهتم به بأمره، وقد استغفر إبراهيم ﷺ لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله :﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ [ إبراهيم : ٤١ ]، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله... ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] إلى قوله :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الآية، يعني إلاّ في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بيَّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، وقوله :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ﴿ وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ أي وأعبد ربي وحده لا شريك له، ﴿ عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾ وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد ﷺ.


الصفحة التالية
Icon