هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام، فيما سأل من ربه عزّ وجلّ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه، فيما كان من أمر أمه، حين كانت ترضعه وتحذر عليه، من فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم الله - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلاّ على فراش فرعون، ويغذى بطعامه وشرابه، مع محبته وزوجته له، ولهذا قال تعالى :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمه بن كهبل ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ قال : حببتك إلى عبادي، ﴿ وَلِتُصْنَعَ على عيني ﴾ : تربى بعين الله، وقال قتادة : تغذى على عيني، وقال ابن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة. وقوله :﴿ إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ﴾، وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قال الله تعالى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ ﴾ [ القصص : ١٢ ]، فجاءت أخته، وقالت :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [ القصص : ١٢ ] تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا، وفي الآخرة أعظم وأجزل، ولهذا جاء في الحديث :« مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها »، وقال تعالى هاهنا :﴿ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ أي عليك، ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْساً ﴾ يعني القبطي ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم ﴾ وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقوله :﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾.
( حديث الفتون ) : روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعي النسائي في سننه، عن سعيد بن جبير، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام :﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾، فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا أبا جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أبناء وملوكاً، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلاّ ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً.