قد ذكر كثير من المفسرين، هاهنا ( قصة الغرانيق ) وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، وخلاصتها عن سعيد بن جبير قال :« قرأ رسول الله ﷺ بمكة » النجم « فلما بلغ هذا الموضع :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى ﴾ [ النجم : ١٩-٢٠ ] قال : فألقى الشيطان على لسانه :» تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى «، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ » ؛ وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل هاهنا سؤالاً : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك. فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ﷺ وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان، لا عن رسول الرحمن ﷺ والله أعلم. وقوله :﴿ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ ﴾ هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، قال البخاري قال ابن عباس ﴿ في أُمْنِيَّتِهِ ﴾ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾. وقال مجاهد :﴿ إِذَا تمنى ﴾ يعني إذا قال؛ ويقال أمنيته قراءته ﴿ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ [ البقرة : ٧٨ ] يقرؤون ولا يكتبون، قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله :﴿ تمنى ﴾ أي تلا وقرأ كتاب الله ﴿ أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ ﴾ أي في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك ﴿ إِذَا تمنى ﴾ إذا تلا، قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله تعالى :﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ﴾ حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع، قال ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان؛ وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وقوله :﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي في تقديره وخلقه وأمره، له الحكمة التامة والحجة البالغة، ولهذا قال :﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي شك وشرك وكفر ونفاق كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان، قال ابن جريج ﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ هم المنافقون، ﴿ والقاسية قُلُوبُهُمْ ﴾ هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود، ﴿ وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك، هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب عزيز


الصفحة التالية
Icon