﴿ خَتَمَ الله ﴾ أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم ﴿ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. قال مجاهد : الختم : الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال :﴿ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] وفي الحديث « يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ».
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إن معنى قوله تعالى :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال : فلان أصمُّ عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً، قال : وهذا لا يصح لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم. قلت : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير هاهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً، وما جرّأه على ذلك إلاّ اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده. ولو فهم قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال.
قال ابن جرير : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٤ ] » فأخبر ﷺ أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره الله في قوله :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ ﴾ نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروف.


الصفحة التالية
Icon