يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدرالحجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى، كما في أرض مصر، ويقال لها الأرض الجرز يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر، فيسقي أرض مصر، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور، وقوله :﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض ﴾ أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية إليه، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى، وقوله :﴿ وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجلعناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً زلالاً، فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض، فيفتح العيون والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون، فله الحمد والمنة.
وقوله تعالى :﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ﴿ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ [ النمل : ٦٠ ] أي ذات منظر حسن، وقوله :﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ أي فيها نخيل وأعناب، وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره، وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره، وقوله :﴿ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ أي من جميع الثمار، كما قال :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات ﴾ [ النحل : ١١ ]، وقوله :﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ معطوف على شيء مقدر، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون، وقوله :﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ ﴾ يعني الزيتونة، والطور هو الجبل، وقال بعضهم : إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر، فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً والله أعلم. و ﴿ طُورِ سَيْنَآءَ ﴾ هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون، وقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ أي تنبت الدهن، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده أي يده، ولهذا قال :﴿ وَصِبْغٍ ﴾ أي أدم قاله قتادة ﴿ لِّلآكِلِيِنَ ﴾ أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ، قال رسول الله ﷺ :


الصفحة التالية
Icon