يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا، أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها : أي إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم، التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء، ولهذا قال :﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق ﴾ يعني كتاب الأعمال، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا يبخسون من الخير شيئاً، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين، ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش :﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ ﴾ أي في غفلة وضلالة من هذا، أي القرآن الذي أنزل على رسوله ﷺ، وقوله :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾، قال ابن عباس :﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ﴾ أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك ﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾، قال : لا بد أن يعملوها، وقال آخرون ﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ : أي قد كتبت عليهم أعمال السيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة لتحق عليهم كلمة العذاب؛ وهو ظاهر قوي حسن، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود :« فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها »، وقوله :﴿ حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ يعني حتى إذا جاء مترفيهم - وهم المنعمون في الدنيا - عذابُ الله وبأسُه ونقمتُه بهم ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ أي يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى :﴿ وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١١ ]، وقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ ص : ٣ ]، وقوله :﴿ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ﴾ أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر، لزم الأمر ووجب العذاب، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال :﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ﴾ : أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم، ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير ﴾ [ غافر : ١٢ ]، وقوله :﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. وقيل إنه محمد ﷺ كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ويضربن له الأمثال الباطلة، من أنه شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وقيل المراد بقوله ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾ أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به، كما قال ابن عباس : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾ فقال : مستكبرين بالبيت، يقولون : نحن أهله ﴿ سَامِراً ﴾ قال : كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه.


الصفحة التالية
Icon