اشتملت هذه الآيات الكريمات، على جمل من الأحكام المحكمة، فقوله تعالى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ ﴾ أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام :« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن الفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »، وقد جاء في السنن :« تزوجوا الولود، تناسلوا فإني مباه الأمم يوم القيامة »، الأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، يقال : رجل أيم وامرأة أيم، وقوله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ الآية، قال ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾، وقال أبو بكر رضي الله عنه : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى يقول الله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾، وعن ابن مسود : التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله »، وقد زوّج النبي ﷺ ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلاّ إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وقوله تعالى :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام، كما قال ﷺ :« ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » وهذه الآية مطلقة والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، إلى قوله :﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لأن الولد يجيء رقيقاً ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، قال عكرمة في قوله :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ﴾ قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى وقوله تعالى :﴿ والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب، يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، قال الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب آخذاً بظاهر هذا الأمر، وقال البخاري عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه؟ قال : ما أراه إلا واجباً، وقال عمرو بن دينار، قلت لعطاء : أتأثره عن أحد؟ قال : لا، ثم أخبرني أن سيرين سأل أنساً المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال : كاتبه، فأبى، فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه :﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ فكاتبه.