وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله ( هود ) عليه السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت متاخمة بلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف :﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً ﴾ [ الآية : ٦٩ ]، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ ؟ الريع : المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً، ولهذا قلا :﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ أي معلماً بناء مشهوراً، ﴿ تَعْبَثُونَ ﴾ أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ قال مجاهد : والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد، وفي رواية عنه : بروج الحمام. وقال قتادة : هي مأخذ الماء، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ أي لكي تقيموا فيها أبداً، وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم، روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا تستحيون، ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً، وركاباً فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟ وقوله :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾ أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم، ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال :﴿ واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ أي إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم.