هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين، بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، ولهذا قال تعالى :﴿ ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون ﴾. عن الزبير بن العوام قال، قال رسول الله ﷺ :« البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم »، ولهذا ما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك ( أصحمة النجاشي ) ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وأيدهم، ثم بعد ذلك هاجر رسول الله الله ﷺ والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة، ثم قال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ أي أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فما كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب، ولهذا قال تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة، تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ما كثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، ﴿ نِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾ نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين ﴿ الذين صَبَرُواْ ﴾ أي على دينهم وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده.
وفي الحديث :« إن في الجنة غرفاً يرى ظاهراً من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام » ﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، ﴿ الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي الله يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، قال تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ]، وروى ابن أبي حاتم


الصفحة التالية
Icon