يقول تعالى أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل، ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ [ مريم : ٩٨ ]، ولهذا قال :﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها كأن لم يغنوا فيها، كما قال :﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا ﴾ [ النمل : ٥٢ ]، وقال :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [ الحج : ٤٥ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم، وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، لآيات وعبراً مواعظ ودلائل ﴿ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ﴾ أي أخبار من تقدم كيف كان من أمرهم. وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز ﴾ يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم، في إرساله الماء من السماء أو من السيح، وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال، إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته، ولهذا قال تعالى :﴿ إِلَى الأرض الجرز ﴾ وهي التي لا نبات فيها، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ [ الكهف : ٨ ]، وأرض مصر رخوة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل، بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. روى قيس بن حجاج قال : لما فتحت مصر أتى أهلها ( عمرو بن العاص ) وكان أميراً بها، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجي إلاّ بها، قال وما ذاك؟ قالوا إذا كانت ثنتا عشر ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإِسلام، إن الإِسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء، فكتب ( عمرو ) إلى ( عمر بن الخطاب ) بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد : فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. ولهذا قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ﴾ [ عبس : ٢٤-٢٥ ] الآية، ولهذا قال ههنا :﴿ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ ؟ وقال ابن عباس في قوله ﴿ إِلَى الأرض الجرز ﴾ قال : هي التي لا تمطر إلاّ مطراً لا يغني عنها شيئاً إلاّ ما يأتيها من السيول، وقال عكرمة والضحاك : الأرض الجرز الي لا نبات فيها وهي مغبرة، قلت وهذا كقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا ﴾ [ يس : ٣٣ ] الآيتين.


الصفحة التالية
Icon