يقول تبارك وتعالى : ولو ترى يا محمد إذا فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة ﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ ﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب، بل أخذوا من أول وهلة، قال الحسن البصري : حين خرجوا من قبورهم، وقال مجاهد وقتادة : من تحت أقدامهم، وعن ابن عباس والضحاك : يعني عذابهم في الدنيا، وقال عبد الرحمن بن زيد : يعني قتلهم يوم بدر، والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة وهو الطامة العظمى، وإن كان ما ذكر متصلاً بذلك؛ ﴿ وقالوا آمَنَّا بِهِ ﴾ أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله ورسله كما قال تعالى :﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ أي وكيف لهم تعاطي الإيمان، وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي ( دار الجزاء ) لا دار الابتلاء؟ فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، قال مجاهد :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ قال : التناول لذلك، وقال الزهري : التناوش تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا، وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد، وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة.
وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل، ﴿ وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني بالظن، كما قال تعالى :﴿ رَجْماً بالغيب ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] فتارة يقولون شاعر، وتارة يقولون كاهن، وتارة يقولون ساحر، وتارة يقولون مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد، ويقولون ﴿ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] قال قتادة ومجاهد : يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار، وقوله تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما : يعني الإيمان، وقال السدي :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ وهي التوبة، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، وقال مجاهد :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل، والصحيح أنه لا منافاة بين القولين فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه. وقوله تعالى :﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ﴾ أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله، تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ ﴾ أي كانوا في الدنيا في شك وريبة فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب، قال قتادة : إياكم والشك والريبة، فإن من مات على شك بعث عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.


الصفحة التالية
Icon