ويرفع ﷺ صوته بقوله : أبينا، ويمدها، وقد روى هذا بزحاف في « الصحيحين » أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسليم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها نحور العدو :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا : هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن الشعر، بلى جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك ما ثبت في « الصحيحين » عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله ﷺ في غار، فنكبت اصبعه، فقال صلى لله عليه وسلم :
هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
وكذ هذا لا ينافي كونه ﷺ ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم : الذي ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ]، وليس هو بشر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته ﷺ تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً. قال ﷺ :« لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً » على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم ( أمية بن أبي الصلت ) الذي قال فيه رسول الله ﷺ :« آمن شعره وكفر قلبه »، وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي ﷺ مائة بيت يقول ﷺ عقب لك بيت :« هيه »، يعني يستطعمه فيزيده منذلك، وفي الحديث :« إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر ﴾ يعني محمداً ﷺ ما علمه الله الشعر، ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ أي وما يصلح له ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ما هذا الذي علمناه ﴿ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ أي بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره، ولهذا قال تعالى :﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ﴾ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة، كما قال قتادة : حب القلب، حي البصر، وقال الضحاك : يعني عاقلاً، ﴿ وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين ﴾ أي وهو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.


الصفحة التالية
Icon