يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ أي اختبرناه بأن سلبناه الملك، ﴿ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ﴾. قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني شيطاناً، ﴿ ثُمَّ أَنَابَ ﴾ أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته، قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخراً، وقيل : آصف، ﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب ﴾ قال بعضهم : معناه لا ينبغي لأحد منم بعدي ولا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي، والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من الشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله ﷺ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« إن عفريتاً من الجن تفت عليَّ البارحة أو كلمة نحوها ليقطع علي الصلاة فأمكنني بالله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان ﷺ :﴿ قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي ﴾ » قال روح : فرده خاسئاً. وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :« قام رسول الله ﷺ، فسمعناه يقول :» أعوذ بالله منك، ثم قال : ألعنك بلعنة الله « ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال :ﷺ :» إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت : ألعناك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مراتب، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة « ».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ قام يصلي الصبح، وأنا خلفه فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال :» لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل « ».
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ قال الحسن البصري : لما عقر سليمان ﷺ الخيل غضباً لله عزّ وجلّ، عوّضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وقوله جل علا :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي حيث أراد من البلاد، وقوله جل جلاله :﴿ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما بها من اللآلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها، ﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تمرد وعصى، وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى، وقوله عزّ وجلّ :﴿ هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعظ من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي مهما فعلت فهو جائز لك، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ لما خيِّر بين أن يكون ( عبداً رسولاً )، وبين أن يكون ( نبياً ملكاً ) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه السلام، فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى، لأنها أرفع قدراً عند الله عزّ وجلّ وأعلى منزلة من المعاد، ون كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان ﷺ في الدنيا نبه تعالى أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضاً، فقال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ أي في الدار الآخرة.


الصفحة التالية
Icon