وقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ﴾ أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم، ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾ أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً مما تعملون، هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين ﴾ أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم. روى الإمام أحمد، عن عبد الله رضي الله عنه قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه يقفيان أو ثقفي وختناه قرشيان كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم : أترون أن اله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر : إن سمع منه شيئاً سمعه كله، قال : فذكر ذلك للنبي ﷺ فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ مِّنَ الخاسرين ﴾. وروى الإمام أحمد، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوماً قد أرادهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى :﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين ﴾ » وقوله تعالى :﴿ فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين ﴾ أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا، هم في النار لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذاراً فما لهم أعذار، ولا تقال لهم عثرات، قال ابن جرير : ومعنى قوله تعالى :﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ﴾ أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم، قال : وهذا كقوله تعالى إخباراً عنهم :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٦-١٠٨ ].


الصفحة التالية
Icon