لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء، ولهذا سمي القرآن مثاني، فقال :﴿ إِنَّ المتقين ﴾ أي لله في الدنيا ﴿ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾ أي في الآخرة، وهو الجنة وقد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب، من الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم، وقوله تعالى :﴿ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ ﴾ وهو رفيع الحرير، كالقمصان ونحوها، ﴿ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ وهو ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالريش ما يلبس على أعالي القماش ﴿ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره، وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ أي هذا العطاء ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي ﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ الرحمن : ٥٦ ] ﴿ كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان ﴾ [ الرحمن : ٥٨ ] روى ابن أبي حاتم، عن أنس رضي الله عنه رفعه قال : لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها، وقوله عزّ وجلّ :﴿ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴾ أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا، وقوله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾، وهذا استثناء يؤكد النفي، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً، كما ثبت في « الصحيحين » « أن رسول الله ﷺ قال :» يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت. ويا أهل النار خلود فلا موت « وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا :» قال رسول الله ﷺ :« يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً ».
وقوله تعالى :﴿ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم ﴾ أي مع هذا النعيم العظيم المقيم، قد وقاهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم، في دركات الجحيم، ولهذا قال عزّ وجل :﴿ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ أي إنما كان هذا بفضله عليهم، وإحسانه إليهم، كما ثبت في الصحيح « عن رسول الله ﷺ أنه قال :» اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة «، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال ﷺ :» ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « » وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي إنما يسرنا هذا الرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي يتفهمون ويعملون، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان، من الناس من كفر وخالف وعاند، قال الله تعالى لرسوله صلى اله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر، ومتوعداً لمن كذبه بالعطف والهلاك ﴿ فارتقب ﴾ أي انتظر ﴿ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾ أي فيسعلمون لمن تكون النصرة والظفر، وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين، ومن اتبعكم من المؤمنين، كما قال تعالى :