وروى البخاري رحمه الله في « صحيحه »، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : خرج رسول الله ﷺ من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلد الهدى وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً من خزاعة وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال :« إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلون وصادوك ومانعوك فقال ﷺ :» أشيروا أيها الناس عليّ، أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه «؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال النبي ﷺ :» فامضوا على اسم الله تعالى «، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي ﷺ :» إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر به خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقالت الناس : حل حل، فألحت، فقالوا : خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي ﷺ :« ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل »؛ ثم قال ﷺ :« والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها » ثم زجرها، فوثبت، فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشُكي إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع ﷺ من كنانته سهماً، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال الجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء ( بديل من ورقاء ) الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عبية نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عدا مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ :« إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإنَّ قريشاً قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيها دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره » قال بديل : سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول، قال : سمعته يقول : كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله ﷺ، فقال عروة بن مسعود فقال أي قوم : ألستم بالوالد؟ قالوا : بلى، قال : وألست بالولد؟ قالوا بلى، قال فهل تتهموني؟ قالوا : لا، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا : ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ له نحواً من قوله لبديل بن ورقاء، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأُخْرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات، أنحن نفر وندعه؟ قال : من ذا؟ قالوا : أبا بكر، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال : وجعل يكلم النبي ﷺ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ﷺ والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي ﷺ ومعه السيف وعليه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ. فرفع عروة رأسه، وقال : من هذا؟ قال : المغيرة بن شعبة، قال : أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ - وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم - فقال النبي ﷺ :« أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء »، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينيه، قال : فوالله ما تنخّم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيماً له ﷺ ؛ فرجع عروة إلى أصحابه. فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته، فقالوا : ائته، فلما أشرف على النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، قال النبي ﷺ :« هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له »، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهولاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال : دعوني آته، فقالوا : ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي ﷺ :« هذا مكرز وهو رجل فاجر » فجعل يكلم النبي ﷺ، فبينما هو يكلم إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال : لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي ﷺ :« قد سهل لكم من أمركم ». قال معمر، قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا النبي ﷺ بعلي رضي الله عنه، وقال :« اكتب بسم الله الرحمن الرحيم »، فقال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي ﷺ :« اكتب باسمك اللهم » ثم قال : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله «، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله، فقال النبي ﷺ : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب : محمد بن عبد الله ».