فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب قال : سمعاً وطاعةً، ثم قال لأصحابه : أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ﷺ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران أضلَّ ( سعد بن أبي وقاص ) و ( عتبة بن غزوان ) بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتاً وأدماً وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم ( عكاشة ابن محصن ) وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه آمنوا وقالوا : عُمَّار لا بأس عليكم منهم، وتشارو القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسَر ( عثمان بن عبد الله ) و ( الحكم بن كيسان ) وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة. قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله ﷺ مما غنمنا الخُمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخُمس من المغانم فعزل لرسول الله ﷺ خُمس العير وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال :« ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام » فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله ﷺ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل ﴾ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكُم منه وأنتم أهله ﴿ أَكْبَرُ عِندَ الله ﴾ من قتل من قتلتم منهم ﴿ والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل ﴾ أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ ﴾ أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين.


الصفحة التالية
Icon