﴿ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ] ثم يقول :« عَدَل والله فيك من جعلك حسيب نفسك ».
وقال ابن عباس ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى أنه ليكتب قوله : أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت؟ حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تعالى :﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاووس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ يقول عزَّ وجلَّ : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص. والصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو، وقيل : الكافر، وقيل غير ذلك، روي أه لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه : ليس كذلك، ولكن قولي :﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول :« سبحان الله إن للموت لسكرات » وفي قوله :﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ قولان :
( أحدهما ) : أن ( ما ) هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتفر، وقد حلَّ بك ونزل بساحتك.
( والقول الثاني ) : أن ( ما ) نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد ﴾ قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور وذلك يوم القيامة، وفي الحديث، أن رسول الله ﷺ قال :« » كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحَنَى جبهته وانتظر أن يؤذن له «. قالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال ﷺ :» قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل «، فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل » ﴿ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذا هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير، لما روي عن يحيى بن رافع قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية ﴿ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ فقال : سائق يسوقها إلى الله تعالى، وشاهد يشهد عليها بما عملت، وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال أبو هريرة : السائق الملك، والشهيد العمل، وكذا قال الضحّاك والسدي، وقال ابن عباس : السائق من الملائكة، والشهيد الإنسان نفسه يشهد على نفسه.


الصفحة التالية
Icon