يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد ﷺ أنه علَّمه ﴿ شَدِيدُ القوى ﴾ وهو جبريل ﷺ، كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ ﴾ [ التكوير : ١٩-٢٠ ]. وقال هاهنا :﴿ ذُو مِرَّةٍ ; ﴾ أي ذو قوة، قاله مجاهد، وقال ابن عباس : ذو منظر حسن، وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة، وقد ورد في الحديث الصحيح :« لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي »، وقوله تعالى :﴿ فاستوى ﴾ يعني جبريل عليه السلام ﴿ وَهُوَ بالأفق الأعلى ﴾ يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قال عكرمة ﴿ الأفق الأعلى ﴾ الذي يأتي منه الصبح، وقال مجاهد : هو مطلع الشمس، قال ابن مسعود :« إن رسول الله ﷺ لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله :﴿ وَهُوَ بالأفق الأعلى ﴾ » وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول الله ﷺ في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، روى الإمام أحمد، عن عبد الله أنه قال :« رأى رسول الله ﷺ جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم ».
وقوله تعالى :﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد ﷺ ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ أي يقدرهما إذا مدّا، قال مجاهد وقتادة. وقوله ﴿ أَوْ أدنى ﴾ هذه الصبغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة، وكذا قوله :﴿ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقوله :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها، فهذا تحيق للمخبر به لا شك، وهكذا هذه الآية ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام، هو قول عاشئة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon