يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبيّ وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بن النضير، يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾، قال الله تعالى :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي لكاذبون فيما وعدوهم به، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ أي لا يقاتلون معهم، ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ أي قاتلوا معهم ﴿ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾، وهذه بشارة مستقلة بنفسها، ثم قال تعالى :﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله ﴾ أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله تعالى :﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ﴾ يعني أنهم من جبنهم وهلعهم، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام، بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة، ثم قال تعالى :﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ أي عداوتهم فيما بينهم شديدة كما قال تعالى :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ﴾ أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل لكتاب والمنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، قال مجاهد والسدي : يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله ﷺ قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ ﴾ يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذي وعدوهم النصر من المنافقين، كمثل الشيطان إذا سوّل للإنسان الكفر ثم تبرأ منه وتنصل، وقال :﴿ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾. روى ابن جرير، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ قال : كانت امرأت ترعى الغنم، كان لها أربعة أخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال : فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له : اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك، فقتلها ثم دفنها قال : فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال هلم : إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأُختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا : بل قصها علينا، قال، فقصها؛ فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر : وأنا والله قد رأيت ذلك، قالوا : فوالله ما هذا إلا لشيء، قال : فانطلقوا، فاستَعْدُوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال : فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو ( برصيصا ) فالله أعلم.


الصفحة التالية
Icon