يقول تعالى مخبراً عن الإنسان، ما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً ﴾، ثم فسره بقوله :﴿ إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً ﴾ أي إذا مسه الضر فزع وجزع، وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصله له بعد ذلك خير ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً ﴾ أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله تعالى فيها. وفي الحديث :« شر ما في الرجُل : شح هالع وجُبن خالع » ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ المصلين ﴾ أي إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير، ويسر له أسبابه وهم المصلون ﴿ الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ قبل : معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها، قاله ابن مسعود، وقيل : المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١-٢ ] قاله عقبة بن عامر، ومنه الماء الدائم وهو الساكن والراكد؛ وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته؛ وقيل المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه، وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ »، قالت : وكان رسول الله ﷺ إذا عمل عملاً داوم عليه، وقوله تعالى :﴿ والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم ﴾ أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات، ﴿ والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين ﴾ أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب، ولهذا قال تعالى :﴿ والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾ أي خائفون وجلون، ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ أي لا يأمنه أحد إلا بأمان من الله تبارك وتعالى، وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ أي يكفونها عن الحرام، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، ولهذا قال تعالى :﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أي في الإماء، ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون ﴾ وقد تقدم تفسير هذا بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ أي محافظون عليها لا يزيدون فيها، ولا ينقصون منها ولا يكتمونها ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة، واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، ﴿ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾ أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.


الصفحة التالية
Icon