يقول تعالى منكراً على الكفّار الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، وهم مشاهدون لما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [ المدثر : ٥٠-٥١ ]، قال تعالى :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾ أي فما لهؤلاء الكفّار الذين عندك يا محمد ﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ أي مسرعين نافرين منك، قال الحسن ﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ أي منطلقين، ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ واحدها عزة أي متفرقين، وقال ابن عباس :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾ قال : قبلك ينظرون ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ العزين : الصعب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به، وعن الحسن في قوله :﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون : ما قال هذا الرجل؟ وفي الحديث :« أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم حلق فقال :» ما لي أراكم عزين « » ؟. وقوله تعالى :﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ ﴾ أي أيطمع هؤلاء، والحلة هذه من فرارهم عن الرسول ﷺ، ونفارهم عن الحق، أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا، بل مأواهم جهنم، ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم مستدلاً عليهم بالبداءة :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ أي من المني الضعيف، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ]، وقال :﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب ﴾ [ الطارق : ٥-٧ ]، ثم قال تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ﴾ أي الذي خلق السماوات والأرض، وسخَّر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها، ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإنه قدرته صالحة لذلك، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ أي بعاجزين، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [ القيامة : ٣-٤ ]، وقال تعالى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٠-٦١ ]، واختار ابن جرير ﴿ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ أي أمة تطيعنا و لا تعصينا وجعلها كقوله :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الاخر عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى :﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ أي يا محمد ﴿ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ﴾ أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله، ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ أي يقومون من القبور، إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب، ينهضون سراعاً ﴿ كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ قال ابن عباس : إلى علم يسعون، وقال أبو العالية : إلى غاية يسعون إليها. ﴿ نُصُبٍ ﴾ يضم النون والصاد وهو الصنم، أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، ﴿ يُوفِضُونَ ﴾ يبتدرون أيهم يستلمه أول، وهذا مروي عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم، وقوله تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾ أي خاضعة ﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ﴿ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon