يقول تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾ أي ظهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، واتبع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ﴿ وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى ﴾ أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وامتثالاً لشرع الله، روي عن جابر بن عبد الله يرفعه ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾ قال :« من شهد أن لا إله إلاّ الله، وخلع الأنداد. وشهد أني رسول الله ﴿ وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى ﴾ قال :» هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها « »، وكذا قال ابن عباس إن المراد بذلك الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى ﴾، وقال قتادة في هذه الآية :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى ﴾ زكى ماله وأرضى خالقه، ثم قال تعالى :﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا ﴾ أي تقدمونها على أمر الآخرة، وتبدّونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم، ﴿ والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ أي ثواب الله في الدار الآخرة، خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دانية فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟ وقد قال رسول الله ﷺ :« الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له » عن عرفجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى ﴾ فلما بلغ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا ﴾ ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وهذا منه على وجه التواضع والهضم، وفي الحديث :« من أحب دنياه أضر بأخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على من يفنى » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ كقوله في سورة النجم :﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى * وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ [ النجم : ٣٦-٤٢ ] الآيات إلى آخرهن؛ وهكذا قال عكرمة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ يقول : الآيات التي في ﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى ﴾، وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى، واختبار ابن جرير أن المراد بقوله :﴿ إِنَّ هذا ﴾ إشارة إلى قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا ﴾ أي مضمون هذا الكلام ﴿ لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ وهذا الذي اختباره حسن قوي، وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon