فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل! فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال : هذا ورق التوت طعمُه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم. وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقرة والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً وتأكله الظباء فيخرج منه المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصنٌ حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكلٍ حسن وصوت مليح. يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأملْ في نبات الأرض وانظر... إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتٌ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضيب الزبرجد شاهدات... بأنَّ الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظرَ إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى :﴿ وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [ فاطر : ٢٧ ]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة والماء، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً.


الصفحة التالية
Icon