ثم شرع تعالى : في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطباً للكافرين :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ يعني محمداً ﷺ فأتوا بسورة من مِثْل ما جاء به؛ إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس ﴿ شُهَدَآءَكُم ﴾ : أعوانكم، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقد تحدّاهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ القصص : ٤٩ ]. وقال في سورة سبحان :﴿ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ]، وقال في سورة هود :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ هود : ١٣ ] وقال في سورة يونس :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ أي شك ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ يعني محمداً ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة. ورجح ذلك بوجوه من أحسنها : أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى :﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ هود : ١٣ ] وقوله :﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] وقال بعضهم : من مثل محمد ﷺ يعني من رجل أُمّيٌّ مثله، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ و ( لن ) لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾


الصفحة التالية
Icon