« ليس المسكين بهذا الطوّاف التي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً ».
وقوله تعالى :﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ : أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ]، وقال :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ]. وفي الحديث :« اتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٥ ].
وقوله تعالى ﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ أي لا يلحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة. قال رسول الله ﷺ :« ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إن شئتم : يعني قوله :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ » وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله ﷺ كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله فوجدته قائماً يخطب، وهو يقول :« ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافاً »، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأل. وعن عبد الله بن مسعود قال :« قال رسول الله ﷺ :» من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه «. قالوا : يا رسول الله وما غناه؟ قال :» خمسون درهما أو حسابها من الذهب « » وقوله :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
وقوله تعالى :﴿ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهر، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً كما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله ﷺ قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع :« وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في في امرأتك » وعن النبي ﷺ أنه قال :« إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة » ؟. وقال ابن جبير عن أبيه : كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً، ودرهماً سراً ودرهماً علانية، فنزلت :﴿ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾. وقوله :﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات، ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ تقدم تفسيره.


الصفحة التالية
Icon