اختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾، فقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إليّ ومتوفيك، يعني بعد ذلك. وقال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك، وقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه، قال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية وقال تعالى :﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] الآية، وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم :« الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا » الحديث. وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه. وقوله تعالى :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي برفعي إياك إلى السماء، ﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾، وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء، تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا : هو الله، وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة.
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له :( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل : جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ). إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه طائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :


الصفحة التالية
Icon