[ الرعد : ٢٥ ]، وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضُهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون : بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها وأتباع محمد ﷺ إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهدهُ إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهد لهم على صدقهم. قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري. فإنه قال :( فإن قلت ) فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصّاهم به ووثَّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله :﴿ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] وقال آخرون : العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضا. حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره. وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى :﴿ الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ قال : ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٢٢ ]، ورجحه ابن جرير. وقيل : المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل :﴿ أولئك هُمُ الخاسرون ﴾ قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى :﴿ أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ [ الرعد : ٢٥ ] وقال ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر. وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الخاسرون ﴾ : الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته.


الصفحة التالية
Icon