لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض، فقال :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ أي قصد إلى السماء. والاستواء هاهنا متضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى ( فسواهن ) أي فخلق السماء سبعاً. والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال :﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ [ الملك : ١٤ ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين ﴾ [ فصلت : ٩ ] الآيات.
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السماوات سبعاً، وهذا شان البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره. فأما قوله تعالى :﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧-٣٠ ] فقد قيل : إن ( ثمَّ ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر :

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل : إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ قال : خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات ﴾ قال : بعضُهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض. وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [ فصلت : ٩ ] فهذه وهذه دالتان على أن الارض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠-٣٢ ] قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى :﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣١-٣٢ ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضيه ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon