لما ذكّرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال :﴿ واتقوا يَوْماً ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ أي لا يغني أحد عن أحد كما قال :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾، وقال :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ]، وقال :﴿ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾ [ لقمان : ٣٣ ] فهذه أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ يعني من الكافرين كما قال :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين ﴾ [ المدثر : ٤٨ ] وكما قال عن أهل النار :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٠-١٠١ ].
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى :﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾ [ آل عمران : ٩١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ ﴾ [ الأنعام : ٧٠ ]، وقال :﴿ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحديد : ١٥ ] الآية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ ابراهيم : ٣١ ] قال ابن عباس ﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ قال : بدل والبدل الفدية.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال :﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ﴾ [ الطارق : ١٠ ] أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كما قال تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [ الفجر : ٢٥-٢٦ ]، وقال :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾، [ الصافات : ٢٥-٢٦ ] وقال :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٨ ] الآية. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ما لكم اليوم لا تمانعون منا، هيهات ليس ذلك لكم اليوم، قال ابن جرير : وتأويل قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ يعني أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله تعالى :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤-٢٦ ].


الصفحة التالية
Icon