وقوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ المؤمنات ﴾ أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قال في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل :« حشفاً وسوء كيله ». والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات : العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ محصنات غَيْرَ مسافحات وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] ؛ وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] الآية. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : نزلت هذه الآية ﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الآية الكريمة ﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ الآية : ٢٢١ ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى :﴿ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ [ البينة : ١ ]، وقوله :﴿ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي مهورهن، أي كما هن محصنات عفائف، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي والحسن البصري : بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما، وترد عليه ما بذل لها من المهر، رواه ابن جرير عنهم.
وقوله تعالى :﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ ﴾. فكما شرط الإحصان في النساء، وهي العفة عن الزنا، كذلك شرطها في الرجال، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً، ولهذا قال غير مسافحين، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ﴿ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ ﴾ أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهن، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذا الآية، وللحديث :