وهناك نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ الآية. قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى. وهذا قطعة من حديث الفتون. ثم كانت وفاة هارون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام الله فيهم ( يوشع بن نون ) عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال : إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي؛ فحبسها الله تعالى حتى فتحها. وأمر الله ( يوشع بن نون ) أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون حطة : أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يقولون : حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض ﴾ قال : فتاهوا أربعين سنة، قال : فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار، فلم تأته، فقال : فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال : الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته. وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ هو العامل في أربعين سنة، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال : خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن ( عوج ابن عنق ) قتله موسى عليه السلام قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه قال : وأجمعوا على أن ( بلعام بن باعورا ) أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال : وما ذاك إلاّ بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه.


الصفحة التالية
Icon